تأثير استماع القرآن في المؤمنين
الوصف
تأثير استماع القرآن في المؤمنين
تحبُّ الملائكة الكرام استماع القرآن الكريم، وتحفُّ مجالسه، وتنزل أحياناً لاستماعه وللإنصات له، قال الله تعالى: ﴿ أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].
والمقصود بقوله: ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78] صلاةَ الفجر[1]، أي: أنَّ القرآن الذي يتلوه الإمام في صلاة الفجر تشهده وتحضره الملائكة: ملائكة اللَّيل، وملائكة النَّهار[2].
وإنَّما عبَّر عن صلاة الصُّبح بقرآن الفجر؛ لأنَّ القرآن يقرأ فيها أكثر من غيرها، وهذا هو هَدْي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في إطالة القراءة في صلاة الفجر أكثر من غيرها في سائر الصَّلوات المفروضة، فكان يقرأ فيها ما بين الستِّين إلى المائة آية[3].
أيها الإخوة الكرام.. ومن أثر استماع القرآن في الملائكة الكرام استغراقهم في السَّماع حتَّى كادوا يَظهرون للنَّاس، وذلك عندما تنزَّلت ودنت من الصَّحابي الجليل أُسيد بن حُضير رضي الله عنه وهو يقرأ في صلاة اللَّيل، والشَّاهد من الحديث: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال له - بعد أن أخبره أُسيدٌ رضي الله عنه بما حصل له تلك اللَّيلة: «تِلْكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأتَ؛ لأَصْبَحْتَ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لا تَتَوَارَى مِنْهُمْ»[4].
ومن فوائد الحديث: فضيلة الجهر بقراءة القرآن في صلاة اللَّيل، وأنَّها سبب لحضور الملائكة ودنوِّها من القارئ.
وأشار قولُه صلّى الله عليه وسلّم: «لا تَتَوَارَى مِنْهُمْ» إلى أنَّ الملائكة - لاستغراقهم في الاستماع - كادوا يظهرون للناس على خلاف جبلَّتهم من الاختفاء، الذي هو من شأنهم[5].
ويقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ العَبْدَ إذا تَسَوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ المَلَكُ خَلْفَهُ، فَيَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِه، فَيَدْنُو منه حتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيْهِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيْهِ شَيءٌ مِنَ القُرآنِ إِلاَّ صَارَ في جَوْفِ المَلَكِ، فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُم لِلقُرآنِ»[6].
ومن أثر استماع القرآن في الملائكة كذلك، أنَّها تحفُّ مجالس القرآن لتستمع وتنصت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله، يَتْلُونَ كِتَابَ الله، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ[7]، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيْمَنْ عِنْدَهُ»[8].
معشر الفضلاء.. كان النبَّيُّ صلّى الله عليه وسلّم يحبُّ استماع القرآن العظيم؛ وتطيب نفسه حين استماعه له، ويظهر أثر الاستماع عليه بالتَّأثُّر والخشوع والبكاء. ولا عجب من ذلك فهو أرقُّ النَّاس قلباً، وأسرعهم دمعة، وأعظمهم تأثُّراً بالقرآن الكريم، فقد كان أعرفَ الخلق بالله، وأشدَّهم له خشية. ومن هذه المواقف المباركة:
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقْرَأْ عَلَيَّ» قالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي». قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]. قالَ لِي: «كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ» فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ[9].
2- قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ[10] لِقِراءَتِكَ البَارِحَةَ! لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْماراً[11] مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»[12].
3- عن عائشةَ، زَوْجِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: أبطأتُ على عهدِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم ليلةً بعد العِشَاءِ. ثُمَّ جِئْت فقال: «أيْنَ كُنْتِ؟». قلتُ: كنتُ أستَمِعُ قراءةَ رجلٍ مِنْ أصحابِك لَمْ أسمَعْ مِثلَ قراءتِه وَصَوتِهِ مِنْ أحدٍ. قالتْ: فَقَامَ وقُمْتُ معه حتَّى اسْتَمَعَ له. ثمَّ الْتَفَتَ إليَّ فقال: «هَذاَ سَالِمٌ، مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ. الحَمْدُ لله الَّذي جَعَلَ في أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا»[13].
4- ولا أدلَّ على محبَّة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لاستماع القرآن الكريم من قول فاطمة رضي الله عنها: أَسَرَّ إلَيَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي»[14]. قال ابن حجر رحمه الله: «والمُعارضة: مفاعلة من الجانبين، كأنَّ كلاً منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع»[15].
وخلاصة القول: إنَّ المواقف والمواضع التي تُبرز تأثُّر النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عند استماعه للقرآن كثيرة، بَيْد أنَّ ذلك لا غرابةَ فيه، إذ كيف لا يتأثَّر الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن وهو أتقى الخلق، وعليه أُنزل القرآن؟ وقد رأى الملائكة، وعُرج به إلى السَّماء، وسمع صرير الأقلام، ورأى من آيات ربِّه ما رأى؟ فتأثُّره بالقرآن أمر لا يحتاج إلى دليل أو برهان، فينبغي على المسلمين التأسي بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في سماع القرآن والإنصات له سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها؛ لأن استماع القرآن سنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم يُؤجر عليها صاحبها.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أيها الأحبة الكرام.. إنَّ أثر القرآن العظيم فيمَنْ يسمعه ليس خاصّاً بالملائكة الكرام، أو بالنَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقط، بل يمتدُّ ليشمل سائر البشر؛ مؤمنهم وكافرهم، ولكن الأثر يختلف باختلاف الشَّخص نفسه؛ فإذا كان القرآن يُحدث أثراً في قلب ونَفْس الكافر، إلاَّ أنَّ هذا الأثر لا ينعكس على حياته، ولا على سلوكه، بل يُحاول أن يكتم هذا الأثر كي لا يظهر على ملامحه، ويفتضح أمره، فيتلاشى أثر القرآن أمام عناده واستكباره، أمَّا المؤمنون فقد امتثلوا لآيات الله تعالى، لتعملَ في قلوبهم عملها من التَّأثُّر والخوف والخشوع وزيادة الإيمان، ويظهر هذا التَّأثُّر جليّاً في انفعالاتهم وملامحهم عند سماعهم للقرآن، وكذلك يظهر في سلوكهم وحياتهم، ولنتتبَّع بعض الآيات التي عَبَّرت عن ذلك وأظهرته، ومنها:
1- يقول تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23].
هكذا كان الصَّحابة رضي الله عنهم يتأثَّرون عند قراءة القرآن أو سماعه، لرقَّةٍ في قلوبهم، فعن عبدِ اللهِ بنِ عُروةَ بنِ الزُّبير قال: قلتُ لجدَّتي أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما: «كيف كان أصحابُ رسولِ الله يفعلون إذا قُرئ القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عزَّ وجلَّ تدمع أعينُهم وتقشعرُّ جلودُهم»[16].
أيها المسلمون.. إنَّ كثيراً من العلماء الذين تناولوا قضيَّة إعجاز القرآن بالبحث والتَّصنيف، يستشهدون بهذه الآية على ما للقرآن من تأثير في نفوس سامعيه، وخاصَّة إذا كانت مؤمنةً بالله تعالى[17].
2- ومن الآيات التي تُظْهِرُ أثر استماع القرآن في المؤمنين، قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
وقد وَصَفَ الصَّحابيُّ الجليل أبو الدَّرداءِ رضي الله عنه هذا الوَجَل المذكورَ في الآية، بقوله لشَهْرِ بن حَوْشَب: «الوَجَلُ في القلب كإحراق السَّعَفَة، أما تجد له قَشَعْرِيرةً؟ قال شَهْرُ بن حَوْشَب: بلى. قال: إذا وجدتَ ذلك في القلب فادعُ الله، فإنَّ الدَّعاء يُذهب ذلك»[18].
فهذا الوَجَل - إخوتي - ارتعاشه قلبيَّة تنتاب المؤمن حين يُتلى عليه القرآن العظيم، بما فيه من أوامرَ ونواهٍ وزواجر، فيغشاه جلالُه، وينتفض منه مهابةً، ويتمثَّل عظمة الله إلى جانب تقصيره، فينبعث إلى العمل والطَّاعة[19].
3- ونختم بهذه الآية الكريمة التي تُظهر أثر استماع القرآن في المؤمنين، وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]. فهذا ثناء عطر من الله تعالى على المؤمنين، الَّذين من وَصْفِهم التَّأثُّر والبكاء عند سماعهم لآيات الرَّحمن، ولم يكونوا كالَّذين إذا سمعوا آيات الله خرُّوا عليها صمّاً وعُمياناً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «المراد به القرآن خاصَّة، وأنَّهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته»[20].
وقال النوويُّ رحمه الله: «البكاء عند تلاوة القرآن صفة العارفين، وشعار الصَّالحين».[21]؛ ولهذا قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد، وقال: «هذا السُّجود، فأين البكيُّ؟» يريد: فأين البكاء[22].
وكان عبد الأعلى التَّيمي رحمه الله يقول: «مَنْ أوتي من العلم ما لا يُبْكِهِ لخليق ألاَّ يكون أُوتي علماً؛ لأنَّ الله نَعَت العلماء، ثمَّ تلا هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 - 109]»[23].
الدعاء...
[1] انظر: صحيح البخاري، (3/ 1461).
[2] انظر: تفسير ابن كثير، (3/ 55)؛ تفسير القرطبي، (2/ 298).
[3] انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، (2/ 177).
[4] رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: نزول السَّكينة والملائكة عند قراءة القرآن (3/ 1617)، (ح 5018).
[5] انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، (9/ 81).
[6] رواه المنذري في «التَّرغيب»، واللَّفظ له، (1/ 102) (ح 215)؛ والبيهقي في «السُّنن الكبرى»، (1/ 38) (ح 161)؛ وصحَّحه الألباني في «صحيح التَّرغيب والترهيب»: (1/ 204) (ح 215).
[7] (حفَّتْهُم الملائِكَةُ): أي دارت حولهم.
[8] رواه مسلم، (4/ 2074) (ح 2700).
[9] رواه البخاري (3/ 1627) (ح 5055).
[10] قوله: (لو رَأَيْتَنِي وأَنَا أَسْتَمِعُ) الواو فيه للحال. وجواب لو محذوف، أي: لأعْجَبَكَ ذلك.
[11] المراد بالمزمار هنا: الصَّوت الحَسَن. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (6/ 80).
[12] رواه مسلم، (1/ 546) (ح 793).
[13] رواه ابن ماجه، (1/ 425) (ح 1338)؛ وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (1/ 223) (ح 1100).
[14] رواه البخاري، (2/ 713)، (ح 3667).
[15] فتح الباري شرح صحيح البخاري، (9/ 55).
[16] تفسير البغوي، (4/ 77)؛ الدُّر المنثور، (7/ 222).
[17] انظر: الإعجاز التَّأثيري للقرآن الكريم، د. محمد عطا أحمد، مجلَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية - جامعة الكويت (عدد 36) (شعبان 1419) (ص 53).
[18] رواه الطَّبري في «تفسيره» (6/ 224) (رقم 15705)؛ والسُّيوطي في «الدُّر المنثور» (4/ 11).
[19] انظر: في ظلال القرآن، (3/ 1475).
[20] تفسير القرطبي، (11/ 127).
[21] التبيان في آداب حملة القرآن (ص 44)؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 98).
[22] رواه الطَّبري في «تفسيره» (9/ 129)، (رقم 23779)؛ وابن أبي حاتم في «تفسيره» (7/ 2412).
[23] رواه ابن المبارك في «الزُّهد» (ص 41)، (رقم 125)؛ والطَّبري في «تفسيره» (9/ 223) (رقم 22800).