الحث على تدبر القرآن ومدارسته
الوصف
الحثُّ على تدبُّر القرآن ومُدارسته
الحمدُ لله الذي قال لنبيِّه المصطفى، مُنوِّهاً بعظَمَةِ القرآن وما فيه من الرَّحمةِ والنور والهُدى: ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 1 - 8]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له الملِكُ المولى، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله المُختارُ من الخليقةِ المُجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على محمدٍ وعلى آله وأصحابه البررةِ الأخيار النُّجبا.
أمَّا بعدُ: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى بفعل طاعتهِ وتركِ معاصيه، واعرِفوا فضلَ شهرِكُم واعمُرُوا بالخيرِ أيَّامَهُ ولَيَاليهِ، قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، قال ابنُ كثيرٍ: (يَمْدَح تعالى شَهْرَ الصِّيام مِن بينِ سائرِ الشُّهُور بأن اختارَهُ من بينهنَّ لإنزالِ القُرآنِ العظيم) انتهى.
وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: (كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجْوَدَ الناسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يكُونُ في رمَضَانَ حينَ يَلْقَاهُ جبريلُ، وكانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ ليلةٍ من رمضَانَ فيُدَارِسُهُ القُرآنَ، فلَرَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجْوَدُ بالخيرِ منَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ) رواه البخاري، قال النوويُّ: (وفي هذا الحديثِ فوائِدُ منهَا.. استحبابُ مُدارسةِ القرآنِ) انتهى.
فأقبِلُوا على تلاوةِ كتابِ ربِّكم فإنَّ تلاوَتَه والعملَ به أفضلُ ما تقرَّبَ به المتقرِّبون، وفضائلُه العاليةُ أجلُّ ما تنافسَ فيها المتنافسون، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (لا حَسَدَ إلاَّ في اثنَتَيْنِ: رَجُلٌ علَّمَهُ اللهُ القرآنَ، فهُوَ يَتْلُوهُ آناءَ الليلِ، وآناءَ النهارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ، فقالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثلَ ما أُوتِيَ فُلانٌ، فعَمِلْتُ مِثلَ ما يَعْمَلُ، ورَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالاً فهُوَ يُهْلِكُهُ في الحقِّ، فقالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثلَ ما أُوتِيَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثلَ ما يَعْمَلُ) رواه البخاري.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرآنَ وهُوَ حافظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ وهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وهُوَ عليهِ شَدِيدٌ فلَهُ أَجْرَانِ) رواه البخاري.
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (اقْرَءُوا القُرآنَ فإنهُ يَأتي يومَ القيامةِ شفيعاً لأصحابهِ، اقْرَءُوا الزَّهرَاوَيْنِ: البَقَرَةَ وسُورَةَ آلِ عِمرانَ، فإنهُمَا تَأتِيَانِ يومَ القيامةِ كأنهُمَا غَمَامَتَانِ، أو كأنهُمَا غَيَايَتَانِ، أو كأنهُمَا فِرْقَانِ من طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابهِمَا، اقرَءُوا سُورَةَ البَقَرَةِ فإنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، ولا تَستَطِيعُهَا البَطَلَةُ»، قالَ مُعاويةُ: بلَغَنِي أنَّ الْبَطَلَةَ: السَّحَرَةُ) رواه مسلم.
وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَثَلُ المؤمنِ الذي يَقْرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُها طيِّبٌ وطَعْمُها طيِّبٌ، ومَثَلُ المؤمنِ الذي لا يَقْرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ التَّمرَةِ، لا رِيحَ لها وطَعْمُهَا حُلْوٌ، ومَثَلُ المنافقِ الذي يَقْرَأُ القُرآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طيِّبٌ وطَعْمُهَا مُرٌّ، ومَثَلُ المنافقِ الذي لا يَقْرَأُ القُرآنَ كمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، ليسَ لها رِيحٌ وطَعْمُهَا مُرٌّ) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَن قَرَأَ حَرْفاً مِن كتابِ اللهِ فلَهُ بهِ حَسَنَةٌ، والحَسَنَةُ بعَشْرِ أمثالِهَا، لا أَقُولُ ألم حَرْفٌ، ولكنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، ولامٌ حَرْفٌ، ومِيمٌ حَرْفٌ) رواه الترمذي وصحَّحه الألباني.
أيها المسلمون: إن الآيات والأحاديث الواردة في أنواع فضائل القرآن الكريم وكذا الآثار الواردة عن السلف كثيرة جداً، فمنها: فضل القرآن عموماً، وفضلُه على سائر الكلام، وفضله الكتب السابقة، ومنها: فضائل حَمَلَة القرآن، كمدحهم والثناء عليهم، وتقديمهم في إمامة الصلاة، وتقديمهم في إمارة الجيوش، وفي اللحد في القبور، وتقديمهم في المشورة، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: (وكانَ القُرَّاءُ أصحابَ مَجْلِسِ عُمَرَ ومُشَاوَرَتِهِ، كُهُولاً كانُوا أو شُبَّاناً) رواه البخاري، ومنها: فضائل قراءة القرآن: كفضل قراءته نظَرَاً من المصحف، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مَن سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّهُ اللهُ ورسُولُهُ فلْيَقْرَأْ في الْمُصْحَفِ) أخرجه ابنُ شاهين وحسَّنه الألباني، وفضل قراءته عن ظهرِ قلبٍ، وللعلماء خلافٌ في أيِّ النوعين أفضل، وكفضل الترتيل في القراءةِ، وفضل حُسن الصوت في القراءة، وفضل الماهر بالقرآن، وفضل المتتعتع بالقرآن، وفضل مَن قرأ القرآن قراءةً مُعربة، وكراهة التعمُّق في إقامة حروفه، وفضل قراءته عند النوم، وفضل استماع القرآن، وفضل من استمعَ آية، وفضل البكاء والخشوع عند استماعه، وإثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكَّل بها، وفضل حفظ القرآن كلِّه، وفضل مَن حفظ القرآن في صِباه، والأمر بتعاهده، وذمِّ نسيانه، وفضل ختم القرآن، والمقدار المفضَّل لختم القرآن، والنهي عن ختمه في أقلَّ من ثلاث، وفضل تعلُّم القرآن وتعليمه، وفضل تعلُّمه في الشبيبة، وفضل تعلُّمه بعد صلاة الصبح، وفضل تعلُّم عشر آيات، وفضل تفسير القرآن، ووعيد من قال في القرآن برأيه، وتحريم وتغليظ الْمِراء في القرآن والاختلاف فيه، وفضل العمل به، واستحباب عِظَمِ الكتابة وكراهة صِغَرِها، والنهي عن كتابته على حَجَرٍ أو مَدَرٍ، وفضل النظر في المصحف، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أديموا النظَرَ في الْمُصحف) أخرجه أبو عبيد وحسَّنه ابنُ حجر، والنهي عن مسِّ المصحف للمُحدِث، والنهي عن السفر به إلى أرض الكُفَّار، وكراهة بيعه وشرائه، وكراهة تزيينه وتحليته بالذهب والفضة، وفضل السبع الطوال، وفضل الزهراوين، وفضل البقرة وآل عمران والنساء، وفضل السور المسبِّحات، فعن العِرْباضِ بنِ ساريةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ (كانَ يَقْرَأُ المُسبِّحاتِ قبلَ أنْ يَرْقُدَ، ويَقُولُ: إِنَّ فيهِنَّ آيةً خَيْرٌ من ألفِ آيةٍ) رواه الترمذي وحسنه ابن حجر، وفضل المفصَّل، وفضل سُوَرٍ مُعيَّنةٍ كسورةِ الفاتحة وسورة الإخلاص وغيرهما من السور كثير، إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم في فضائل القرآن الكريم.
اللهُمَّ اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ووالدينا وأهلينا ضياءً، ولأسقامنا دواءً، ولذنوبنا مُمحِّصاً، وعن النار مُخلِّصاً، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلُك وخاصَّتُك يا ربَّ العالمين، آمين، آمين، آمين.
إِنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى بمُراعاةِ العلمِ وتحقيقِ التُّقى، وتدبَّرُوا هذا الكتابَ العزيز، فقد بيَّن الله الغايةَ من إنزاله فأنزلَ على رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، قال الحسن البصري: (وما تَدَبُّرُ آياتِهِ إلا اتِّبَاعُهُ بعِلْمِهِ، واللهِ ما هُوَ بحِفْظِ حُرُوفِهِ وإضاعَةِ حُدُودِهِ) رواه عبدالرزاق.
ثمَّ أنَّبَ اللهُ الكفَّار بمكَّةَ الذين أعرضوا عن القرآن فلم يدَّبرُوا القول الذي أَنزلَ الله: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 68، 69].
ثمَّ أَنزلَ اللهُ في المنافقين في المدينة النبويةِ يلومهم على ترك تدبُّرِ القُرآنِ، فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
ثمَّ أنزل اللهُ في المنافقين أيضاً: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24] وهذه الآياتُ الأربعِ هي تحذيرٌ لجميع المسلمين أن يسلكوا طريق الكفار والمنافقين.
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (والذي نفسي بيدِهِ: إنَّ حَقَّ تلاوتِهِ أنْ يُحِلَّ حلالَهُ ويُحَرِّمَ حَرَامَهُ، ويَقْرَأَهُ كمَا أنزَلَهُ اللهُ، ولا يُحرِّفَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ، ولا يَتَأَوَّلَ منهُ شيئاً على غيرِ تأويلِهِ) رواه ابن جرير.
وعن أبي عبدِ الرَّحمَنِ السُّلَمِيِّ رحمه الله عن عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه قالَ: (قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إِنَّ أفضَلَكُم مَن تَعَلَّمَ القرآنَ وعَلَّمَهُ) رواه البخاري.
وفي روايةٍ: قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ) رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: (ولهذا دَخَلَ في معنى قولِهِ: «خيرُكُم مَن تعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ» تعليمُ حُرُوفِهِ ومَعانيهِ جميعاً؛ بلْ تعَلُّمُ مَعانيهِ هُوَ المقصُودُ الأوَّلُ بتعلِيمِ حُرُوفِهِ، وذلكَ هوَ الذي يَزيدُ الإيمانَ، كما قالَ جُندُبُ بنُ عبدِ اللهِ وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ وغيرُهُما: «تعَلَّمنَا الإيمانَ ثُمَّ تعَلَّمْنا القُرآنَ فازْدَدْنا إيماناً، وأنتُم تَتَعَلَّمُونَ القُرآنَ ثُمَّ تتَعَلَّمُونَ الإيمانَ») انتهى.
وعن حذيفةَ رضي الله عنه قال: (يا رسولَ اللهِ: هلْ بعدَ هذا الخيرِ شَرٌّ؟ قالَ: «فِتْنَةٌ وشَرٌّ»، قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، هلْ بعدَ هذا الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قالَ: «يا حُذيْفَةُ، تَعَلَّمْ كِتَابَ اللهِ واتَّبِعْ ما فِيهِ» ثلاثَ مِرَارٍ، قالَ: قُلْتُ: يا رسُولَ اللهِ، هلْ بعْدَ هذا الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قالَ: «هُدْنَةٌ على دَخَنٍ، وجَمَاعَةٌ على أَقْذَاءٍ، فيها أو فيهِم» قُلْتُ: يا رسُولَ اللهِ، الهُدْنَةُ على الدَّخَنِ ما هِيَ؟ قالَ: «لا تَرْجِعُ قُلُوبُ أقوَامٍ على الذي كانتْ علَيْهِ»، قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أَبَعْدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ؟ قالَ: «فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ، صَمَّاءُ، عليها دُعَاةٌ على أبْوَابِ النارِ، فإِنْ تَمُتْ يا حُذَيْفَةُ وأَنْتَ عَاضٌّ على جِذْلٍ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَداً مِنْهُمْ») رواه أبو داود وحسَّنه الألبانيُّ وقال: (هذا حديثٌ عظيمُ الشأنِ من أعلامِ نبوِّته صلى الله عليه وسلم ونُصحه لأُمَّتهِ، ما أحوجَ المسلمين إليه) انتهى.
وقال صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوداع: (وقد تَركتُ فيكُم ما لَن تَضِلُّوا بعْدَهُ إِنِ اعتَصَمتُم بهِ: كِتَابُ اللهِ) رواه مسلم.
وسُئلت أُمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها (عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالت: ألَسْتَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ قُلتُ: بلَى، قالت: فإنَّ خُلُقَ نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ القُرآنَ) رواه مسلم.
قال النووي: (قولُها: «فإنَّ خُلُقَ نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ القُرآنَ» مَعناهُ: العَمَلُ بهِ والوُقُوفُ عندَ حُدُودِهِ والتَّأَدُّبُ بآدابهِ والاعتِبَارُ بأمثالِهِ وقَصَصِهِ وتَدَبُّرُهُ وحُسْنُ تِلاوتِهِ) انتهى.
قال ابن القيِّم: (المقصودُ مِنَ القِراءةِ فَهْمُهُ وتَدبُّرُهُ، والفِقهُ فيهِ والعَمَلُ بهِ، وتلاوتُهُ وحِفْظُهُ وسيلَةٌ إلى معانيهِ) انتهى، وقال أيضاً: (فَلَو علمَ الناسُ ما في قراءةِ القُرآنِ بالتدبُّرِ لاشتغلوا بها عن كُلِّ ما سواها، فإذا قرَأَهُ بتفكُّرٍ حتى مرَّ بآيةٍ وهُوَ مُحتاجاً إليها في شِفَاءِ قلبه، كرَّرها ولَو مائةَ مرَّةٍ، ولو لَيْلَة، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغيرِ تدبُّرٍ وتفهُّمٍ وأنفعُ للقلبِ وأدعى إلى حُصُول الإيمان وذوق حلاوة القُرآن، وهذهِ كانت عادةُ السلَفِ يُردِّدُ أحدُهم الآية إلى الصَّباح، وقد ثبتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قامَ بآيةٍ يُرَدِّدها حتى الصَّباح، وهي قولُه: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فقراءةُ القُرآنِ بالتفكُّر هيَ أصلُ صلاح القلب) انتهى.
وعن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمي قالَ: (حدَّثنا مَن كانَ يُقرِئُنا من أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنهُم كانُوا يَقتَرِئُونَ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَشْرَ آياتٍ، فلا يَأْخُذُونَ في العَشْرِ الأُخرَى حتى يَعْلَمُوا ما في هذهِ منَ العِلْمِ والْعَمَلِ، قالُوا: فعَلِمْنَا العِلْمَ والْعَمَلَ) رواه الإمام أحمد، وقال ابنُ تيمية: (هذا أَمْرٌ مَشْهُورٌ روَاهُ الناسُ عَن عامَّةِ أهلِ الحديثِ والتفسيرِ، ولهُ إسنادٌ مَعْرُوفٌ) انتهى.
وعنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: (تعَلَّمَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنهُ البَقَرَةَ في اثنَتَيْ عشْرَةَ سَنَةً، فلَمَّا خَتَمَهَا نَحَرَ جَزُوراً) رواه البيهقيُّ في شعب الإيمان.
فهذا هو هديُ الصحابة رضي الله عنهم الانشغال بالعمل بالقرآن.
وقال تعالى ذامَّاً مَن لم يَعمل بما حفظَ من القرآن: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]، قال أبو بكر الطرطوشي: (فدخَلَ في عُموم هذا مَن يَحفَظُ القُرآن من أهل ملَّتنا، ثمَّ لا يفهمه ولا يَعملُ بما فيه) انتهى.
فاغتنموا في هذا الشهر الكريم تلاوتَه آناء الليل والنهار، وتدبَّروه لتهتَدُوا إلى ما فيه من العلوم والحِكَمِ والأسرارِ.
اللهم اجعل القرآنَ ربيعَ قلوبنا، ونُورَ صدورِنا، وجَلاءَ أحزاننا، وذهَابَ هُمومنا، آمين.