كيف أثر القرآن في الصورة الأدبية ؟

كيف أثر القرآن في الصورة الأدبية ؟
1075 0

الوصف

   لقد كانت معجزة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابـًا عربيـًا ، يقوم على الحجة والبيان ، ويخاطب العقل والوجدان ، ويزكي الفكر ويرقى به ، وينمي لدى الإنسان قدراته الذهنية ، ويربي لديه الخيال المتوهج ، والإحساس المرهف … فهو كتاب يعتمد على الكلمة ، ويعني باللفظة ، ويشيد بنيانه على التركيب الرصين والتعبير الرشيق .

    ونظر الناس إلى هذا الكتاب ، فإذا هم يرمقون السماء في علاها ، ويطالعون السيل هدارًا ، والبحر زخارًا ، فوقفوا أمامه مبهورين، ولسلطان بيانه مذعنين، قد تطامنت نفوسهم، وذل جبروتهم ، واهتز كبرياؤهم ، فشهدوا له شهادة الحق ، وأقر الأعداء له بالتفوق والسبق .
شهد الأنام بفضله حتى العدا والفضل ما شهدت به الأعـداء

    لقد كان نزول القرآن بعثـًا جديدًا اهتز له كل شيء ، تغيرت به قيم ، وصححت به مفاهيم ، وحيت بفضله لغات ، واندثرت أخر ، وكان فضل الله عظيمـًا على اللغة العربية ، حيث أنزل بلسانها القرآن ، فحفظت بحفظه ، ومجدت بمجده ، وشرفت بشرفه .( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )(الشعراء 192 ـ 195) .

وقد يكون من نافلة القول: أن نقرر: أن القرآن أثرى اللغة التي نزل بها ، وعمقها وخصبها ، وجعل لها روافد وشرايين ، وشق لها قنوات وأخاديد ، فسارت فيها رشيقة سلسلة ، متينة زاخرة حافلة ، وهاهي لغتنا الغراء تتحدث عن نفسها على لسان شاعر النيل " حافظ إبراهيم " فتقول :
وَسِعْتُ كتاب الله لفظـًا وغايـة وما ضِقْتُ عن آي به وعظات

   ويأتي حديثنا عن " إعجاز القرآن في الصورة الأدبية " ليمثل ظاهرة أسلوبية جديدة ، تنزع إليها نفوس الباحثين ، ومن يهمهم هذا اللون في كتاب الله عز وجل .

والواقع أن الصورة الأدبية لها معنيان عند النقاد العرب :
الأول : أنها تعني المنهج وطريقة الأداء ، وتساوي بهذا المعنى ما نطلق عليه اسم الجنس الأدبي من قصيدة ومقالة وخطبة ورسالة .

الثاني : أن الصورة هي الشكل في النص الأدبي ، وتقابل المضمون الذي هو الفكرة أو المعنى ، وعلى هذا تكون الصورة شاملة للأسلوب وللخيال الذي يلون عاطفة الأديب ويصورها ، وعندئذٍ نقف في النص بين الشكل والمضمون ، فيجب على الأديب أن يوازن بينهما موازنة دقيقة، فلا يطغى أحدهما على الآخر ، فلا يطغى المضمون على الشكل ، وإلا خرج الكلام من باب الأدب إلى العلم ، ولا تغطى الصورة على المضمون ، وإلا كان الكلام أدبـًا لفظيـًا إنشائيـًا لا وزن له في باب الفكر ، بل في مجال الأدب أيضـًا .

وسوف نتحدث هنا عن تأثير القرآن في الصورة الأدبية بمعناها الأول الذي هو طريقة الأداء (وبالمعنى الثاني الذي هو الشكل أو النظم) .

أولاً : تأثير القرآن على الصورة الأدبية :
كانت الصورة الأدبية عند العرب الجاهليين قد انتهت إلى جنسين كبيرين هما : النثر ، والشعر ، فوقف النثر عند الخطبة والوصية والنصيحة ، والمثل والحكمة والمنافرة والمفاخرة ، وسجع الكهان والأسطورة والقصة ، ووقف الشعر عند القصيدة الغنائية بشكلها المألوف المعروف .

ولم يكن للنثر وفنونه وأجناسه في المجتمع العربي كبير حظ ، ولا عظيم شأن - كما كان للشعر - وكان أكثره ارتجالاً ، ليس فيه ثقافة واسعة ، ولا فكر مضيء ، فضلاً عن أن النثر لم يحفل به المجتمع الجاهلي احتفالاً يذكر ، ولم يوله عناية ، ولا أحله منزلة خاصة ، وفوق ذلك كله فقد النثر قيمته ، بفقدان أصوله قبل التدوين ، ولضياع أكثره ، لاعتماده على الذاكرة وحدها ، بعكس العشر لأنه مقيد والنثر مطلق !!

ومن هنا: بقيت القصيدة الغنائية وحدها (الشعر) أرفع صور الأدب في مجتمع الجاهليين ، وهو المجتمع الذي نزل فيه القرآن الكريم متحدثـًا إليه ، موجهـًا له ، وهذه القصيدة الغنائية قد مرت بأطوار عديدة من التهذيب الفني حتى انتهت إلى ما انتهت إليه ، من قصائد المعلقات المعروفة ذات الصبغة المتوازية العمودية .

وقد كانت لهذه القصيدة منزلتها وأهميتها في المجتمع العربي ، فهي حديث الناس وموضع اعتزازهم وتقديرهم وفخرهم ، وهي التي ينشدونها في مجالس لهوهم وجدهم ، وفي مسامراتهم وأنديتهم ، وفي أسواقهم وحروبهم وحلهم وترحالهم .

والشاعر عندما يكتبها ترتفع قيمته الاجتماعية في مجتمعه ، ويصبح له كل ألقاب الحمد والمجد والثناء ، وبلغ من أمر المعلقات : أن كتبت بماء الذهب ـ كما قيل ـ ثم علقت على أستار الكعبة .

ولقد نعرف أهمية المعلقات فهي التي وضعت كل الأصول الفنية للقصيدة العربية ، وهي التي تمثلت فيها البلاغة العربية بجميع خصائصها تمثلاً كاملاً ، وهي التي استنبطت منها أحكام اللغة العربية وقواعدها في بيانها ونحوها وصرفها وغير ذلك !!

وهي كذلك أمدتنا بالشاهد والمثل على كل شيء في لغتنا العربية ؛ ومن أجل ذلك كان ابن عباس يقول : إذا عز عليكم شيء من كتاب الله تعالى فالتمسوه في شعر العرب .

هذه القصائد الشعرية كانت أرفع صور الأدب في مجتمع الجاهلية ، فإذا أتينا لنقيسها بالصورة الأدبية ، بعد أن نفخ القرآن من روحه ولونها بلونه ومنحها من عطاءاته ألفيناها لا تعد شيئـًا مذكورًا ؛ لأن صورة أدبية جديدة كأنها قد خلقت خلقـًا واخترعت اختراعـًا ، وافترعت افتراعـًا!!! ولكن كيف ذلك ؟

لأول وهلة وجدنا أنفسنا أمام أشياء جديدة كل الجدة ، ففرقان وقرآن وآيات وسور ، أسماء جديدة لمسميات جديدة كذلك !!( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ )(الإسراء/ 106) ،( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(الفرقان/1) ، ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ )(الحجر/1) ،( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)(النور/1) .

ولم ينزل القرآن على النمط المألوف من كلام العرب ، فلم يتخذ شكل القصيدة الجاهلية نمطـًا له ، ولم يأت على أسلوب الخطابة ولا الوصية ولا المثل ولا الحكمة ولا المنافرة !!

ولكننا ـ في الوقت ذاته ـ نجد فيه القصة في أرفع أشكالها وأروع ظلالها ، ونجد فيه الخيال الرفيع في ألوان بديعة من التمثيل والتشبيه والمجاز والكتابة والاستعارة ، ونجد فيه البشارة والإنذار ، والوعد والوعيد ، ونجد أرفع الأوصاف وأجل الصور .

لم يكن القرآن شعرًا ولا سجعـًا ، ولا مزاوجة ، ولا نثرًا مرسلاً ، ولا خطابة ، ولكنه جاء على مذهب غير معهود عند العرب ، ومباين للمألوف من كلامهم ، يتصرف في وجوه مختلفة ، من ذكر قصص ومواعظ ، واحتجاج وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد ، وأوصاف وتعليم ، وسير مأثورة ، ويتردد بين طرفي الإيجاز والإطناب ، كَلِمُه يضيء كما يضيء الفجر ، ويزخر كما يزخر البحر !!

وإن تعجب فعجب تصوير الحياة الإنسانية في القرآن ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، والنفس الإنسانية في سلمها وحربها ، ولهوها وجدها ، وأملها وألمها ، وكفرها وإيمانها ، وفي القرآن ـ كذلك ـ من سمو وصفاء الحكمة ، ومن الحجة الدامغة ، والروحانية الصافية ما يوقظ الضمائر ، ويحرك العقول ويثير النفوس !!

وما أروع القرآن في فواتحه وخواتيمه ومقاصده ، وفي حديثه عن المعاني الدقيقة ، والأفكار العميقة ، والأغراض النبيلة ، وفيما اشتمل عليه من دقة التصوير : وسمو التعبير وعظمة التأثير ، وروعة الإيجاز ، وسحر المجاز ، وبلاغة التكرار ، وفصاحة التعريض ، وبراعة الإشارة وفاعلية الإيماء .

إنه يصور نعيم المؤمنين ، فيدعك تشعر بالروح والسعادة ، السرور والحبور ، ثم يصور هلاك العاصين ، وشقاء الجاحدين ، وعذاب الكافرين ، فيجعل القلوب تكاد تنخلع، ويتركك حليف الهم والحزن ، دائم التفكر والاعتبار، والألم والأمل ، والخوف والرجاء .

ونجد في القرآن افتتاحات السور العجيبة ، مثل : ص ، ن ، ق ، طه ، طسم ، حم … ونجد الفواصل في السورة ، موقّعة الخُطا ، منغمة الحروف ، ونجد القصة والعبرة ، والموعظة والحكمة في قالب من الجمال والبهاء ، والجلال والرواء .

ونجد لكل سورة اسمـًا عجيبـًا : البقرة ، الرعد ، الطور ، المائدة ، الكهف ، يونس ، محمد ، النور ، الضحى ، الجمعة ، العصر … إلى غير ذلك ، ونجد لكل اسم من أسماء السور قصة ، ولكل قصة حدثـًا وعبرة .

     كل ذلك نمط مخالف لأنماط البيانيين عند الجاهليين، وصورة مباينة لصورة البلاغة لدى العرب الذين نزلت فيهم معجزة القرآن .